22 نوفمبر، 2024

لو قام ماركس حيا

محمد علي مقلد                                                                18-4-2014

بديهيتان لا تحتاجان أية براهين : الأولى أن تصحيح الأجور الذي تناضل في سبيله لجنة التنسيق النقابية حق مشروع لذوي الدخل المحدود، والثانية أن المصارف مؤسسات رأسمالية “غير إنسانية” أي أنها تبغي الربح وتعيش من تحصيل القيمة الزائدة ، وهذا من طبيعة تكوينها وآليات عملها ، لكن النزاع  بين النقابات والهيئات الاقتصادية لا يجسد حقيقة أزمة الأجور .

تعرض العمل النقابي ، كما المؤسسات الاقتصادية ، لضغوط النظام الأمني اللبناني السوري. هو انهار وهي صمدت. انهار بعد أن أجهزت عليه الأجهزة بخطة ممنهجة ، تناوب على تنفيذها وزراء ينتمون حزبيا وسياسيا إلى فريق قوى الممانعة ، وبعد أن أصابه الزلزال الاشتراكي بشظاياه. أما المؤسسات فقد صمدت بحد أدنى من الخسائر .

أمكن عزل النقابيين اليساريين عن نقابات لا يتطلب الانتساب إليها مستوى رفيعا من العلم والثقافة ، فيما استمر وجودهم فاعلا ، في نقابات المهن الحرة والتعليم والإدارة ، محصناً بثقافة وعدة شغل ومفاهيم موروثه من مرحلة يسارية ماركسية من الفترة السوفياتية.

لم يكلف النقابيون أنفسهم عناء تأويل المصطلحات والاجتهاد في تفسيرها على ضوء الوقائع الجديدة، وتمسكوا بالاجتهادات القديمة المتعلقة بالبنية الفوقية( السياسة) والبنية التحتية (الاقتصاد). لا يتسع المقام لنقاش نظري ، لكن حسبنا القول إن النظام اللبناني لا تنطبق عليه تلك المفاهيم الماركسية الخاصة بآليات عمل النظام الرأسمالي ، بدلالاتها القديمة ،أولا لأن الطبقات تبدلت ،  ولأنه نظام يتدنى فيه الصراع الطبقي والسياسي إلى مستوى خصومات على مصالح شخصية ، وتتداخل فيه تناقضات طائفية ومذهبية وعشائرية كلها مشتقة مما قبل الرأسمالية  .

يطبق النقابيون مفهوم الصراع الطبقي فيتهمون الهيئات الاقتصادية، و”حيتان المال”، و “الطغمة المالية ” والمصارف وكل أصحاب الرساميل ، وكأن ما بين الطرفين  صراع على فائض القيمة الذي يحققه رأس المال على حساب العمل. إن هذه الترجمة الميكانيكية لمفهوم الصراع الطبقي تتنافى مع الوقائع الملموسة لخصومات تتحايل على الطبقات وتستعير مما قبل المجتمع الصناعي تنافسا على السلطة والمصالح الشخصية. إذ كيف يمكن أن نفسر بالتحليل الطبقي صراعا مذهبيا سنيا شيعيا أو صراعا طائفيا ، أو انقساما لبنانيا بين مؤيد للنظام السوري ومؤيد للثورة والربيع العربي ؟

الصراع الطبقي ، كمفهوم إجرائي، لا يلبي ، بدلالته القديمه ، حاجة  التحليل العلمي لكشف حقيقة ما يدورعلى حلبة الصراع في لبنان ، بل هو يتستر على الخطر الحقيقي الذي لا يهدد لقمة عيش أصحاب الدخل المحدود فحسب ، بل يهدد الاقتصاد والدولة والمصير الوطني برمته . ناهيك عن أنه يعجز عن تفسير الأوضاع في الصومال أو اليمن أو مصر وغيرها ، وهو لا يكفي لتفسير العوامل التي فجرت ثورة الربيع العربي . كل ذلك لا يلغي قيمته بل يملي على مستخدميه تحديثه وتطويره مع مستجدات العلم والوقائع التاريخية.

فضلا عن ذلك ، إن التفاوت الطبقي لم يكن سببا رئيسيا في استمرار الأزمة اللبنانية لأكثر من خمسين عاما ، من بينها أربعون عاما حربا أهلية ، ولا كان الصراع طيلة هذه الفترة بين طبقة عاملة وطبقة برجوازية ، فعلى كل الجبهات المتقابلة كان يقف عمال ومثقفون وعاطلون عن العمل ومسلحون من كل الفئات الاجتماعية . كما أن التفاوت الطبقي لم يكن سبباً رئيسياً في انفجار الربيع العربي في البلدان الخمسة التي اندلعت فيها المعارك مع السلطات تحت شعار “الشعب يريد تغيير النظام” ، وقد يكون ثانويا في بعض البلدان وقد لا يكون أبدا في بعضها الآخر. بينما يبرز عامل مشترك واضح وضوح الشمس ، هو النقمة على نظام الاستبداد القروسطي الوراثي أو العسكري.

إن الخطر الأساسي على السلسلة ، وعلى الأوضاع المعيشية ،وعلى المصائر الوطنية ، هو استعصاء العالم العربي على الدخول في الحضارة الرأسمالية من الباب السياسي، أي بقاء أنظمة الاستبداد رابضة على صدر الأمة ، بما في ذلك النظام اللبناني الذي يتم اختيار الحاكم فيه من بقايا موروثة عن مرحلة السلالات والإمارات والممالك تفرض نفسها بالتعيين أو بالانتخابات الشكلية التي تزور الإرادة الشعبية ، ناهيك بأسلوب التشبيح الذي جعل الدولة محكومة بآليات لا تعترف بدستور ولا بقانون.   

إن سلطة تتشكل بمثل هذه الآليات لا يمكن أن تكون حكما بين العمال وأرباب العمل ، أو أن ترعى مصالحة بين الطبقات ، أو أن تصوغ تسويات أو حلولا لمشكلات اقتصادية أو سياسية لأنها هي سبب  كل هذه المشكلات ، بل هي الخطر على مصالح كل الفئات الاجتماعية ، ولا سيما حين ينخرط أطرافها من المحاصصين وممثلي المذاهب والطوائف في النضالات إلى جانب الحركة النقابية ، ويشاركون العلمانيين وأنصار الدولة المدنية في المطالبة بقيام دولة المواطنة ، أو حين يتمثلون ” خير تمثيل “، بالمحاصصة أيضا ، في الهيئات النقابية ، فيلبس أهل السلطة لبوسا نضاليا ويتظاهر الوزراء ضد الحكومة حين يقتضي الأمر. إنها صورة سوريالية من غير شك . لكن ظلالها المأسوية تلغي المسافة بين الجلاد والضحية.

النظام اللبناني لا تنطبق عليه آليات الرأسمالية ، بل آليات التشبيح الميليشيوي . وبناء عليه فإن الحل لمشكلة السلسلة وكذلك لسائر المشكلات التي يعاني منها الوطن يبدأ باستعادة الدولة المصادرة ، وإعادة بنائها حتى يستوي فيها الصراع صحيحا ، تحت سقف القانون وفي إطار المؤسسات .