25 أبريل، 2024

مجلس نواب ميليشيوي

13-6-2014

بين أعضاء البرلمان قامات علمية ومالية واقتصادية وسياسية كبيرة ، وإلى جانبهم بعض من تحدر من سلالة الحرب الأهلية وميليشياتها المسلحة ، بالإضافة إلى من يدخل إلى النيابة ويخرج منها بلا أثر يذكر . غير أن ميليشيوية البرلمانات ليس نعتا لأعضائها بل لآليات عملها ، وهو لا يقتصر على المجلس النيابي في لبنان ، بل يشمل كل المجالس الموجودة في العالم العربي .

الميليشيوية ليست شتيمة ، هي ببساطة ، صفة دقيقة مرادف لانتهاك دستور الدولة وقوانينها ، تتجسد بوجود ،خارج الدولة، لقوى مسلحة تغتصب صلاحيات الدولة وتمارس السلطة بديلا عنها ، وتتحاصص سيادتها ومواردها المالية ومؤسساتها ، الخ .

بعد أحداث أيلول الأردنية، 1970،  تشكل مجلس نيابي ، اجتمع مرة واحدة ثم علقت أعماله لسنوات. بقرار ملكي تشكل وبقرار ملكي تعطل . وفي مصر أعلن السادات قبل اجتماع المجلس النيابي ، أن المجلس النيابي سيجتمع ليقرر تغيير إسمه ، وفي العراق ها هو المجلس النيابي المنتخب بعد سقوط صدام حسين على أساس النسبية والدائرة الواحدة يتحول إلى مادة للتحاصص بين الكتل المذهبية ، وفي ليبيا ، اجتمع أول مجلس نيابي بعد القذافي ليقتتل أعضاؤه . تحصل كل هذه الظواهر لأن المجلس النيابي ليس سيد نفسه ، ولأن هناك من يتخذ القرارات بالنيابة عنه ولأن مصيره لا يتقرر في صناديق الاقتراع  بل لدى مراكز النفوذ ، وذلك دائما خلافا لمقتضيات القانون.

المجلس النيابي اللبناني انتخب رئيسا للجمهورية مرة واحدة في عمر الجمهورية ، بالنصف زائدا واحدا ، وفي كل المرات الاخرى كان ينتظر اتفاقا بين القوى الخارجية على اسم الرئيس ليلتئم عقده في اجتماع بنصاب قانوني ، غير أن النصاب القانوني ، هذه المرة ، حيّر عقول فقهاء القانون .

المجلس النيابي الحالي ما زال يكرر آليات العمل التي تلقنها أيام حكم الوصاية ، لا بما يتطابق مع موجبات الدستور والمصالح العليا للدولة ، بل بما تمليه مصالح القوى المسلحة من خارج الدولة ، وكأنه ، بسلوكه هذا ، يقلد صراع الشارع وينقله إلى أروقة المجلس ثم يعيده تهييجا للشارع ،  وتحضيرا لكل الأجواء الملائمة لتجدد الحرب الأهلية .

إنه بحسب الدستور ، الهيئة السياسية الأعلى في البلاد ، فإليه يعود اختيار رئيس للجمهورية ، واختيار رئيس للوزراء . وإليه تعود مراقبتهما ومحاسبتهما ، وإليه تعود مهمة وضع التشريعات  التي ينبغي أن تلتزم بها كل السلطات ، بما فيها السلطة القضائية .لكنه ، في حالته الراهنة ، يعمل خلافا لذلك ، فليس هو من ينتخب رئيسا للجمهورية ، وليس هو من يراقب ولا هو الذي يحاسب . بل حولته قوة الآليات الميليشيوية إلى أداة تنفيذية ، وصار هو الذي يأتمر بأمر الحكومة ، أو بأمر من تأتمر بأمره الحكومة ، وتحول أعضاؤه ، في هذه الحالة ، إلى عاطلين عن العمل ، يشتغلون كمعقبي معاملات لدى الوزراء وفي دوائر الدولة ، وصارت أعمارهم تحتسب بساعات التعطيل النيابية لا بساعات العمل التشريعي  .

وهو بحسب الدستور في حالة اجتماع دائمة ، إذا ما انتهت ولاية الرئيس أو شغر موقعه ، لكن مجلسنا الكريم ” يتفنن ” بتعطيل النصاب وفي التغيب عن الاجتماع ، ويكلف أبعد الناس عن التشريع بمهمة الاجتهاد القانوني ، فيدفعهم إلى حلبة الفقه وعلم الدساتير ، فيأتيك طبيب الاسنان ورجل الأعمال والناطق الرسمي باسم القائد والمستشار الأمني وسواهم من كارهي الصرف والنحو الذين يمطون معاني المصطلحات ويلوون أعناقها لتأتي اجتهاداتهم على قدر أهل الجهل ( لا أهل الجهد ) ، وتتحول خطاباتهم إلى مماحكات إعلامية سمجة ومقرفة ، ويتحول سلوكهم إلى ما يشبه لعبة الغميضة ( كاش كاش) .

وهو لا يسن من القوانين إلا ما يعطل السلطة التنفيذية ، ولا يختار من الدستور إلا المواد التي يكتنفها بعض الغموض ،وبدل أن يكلف نفسه عناء تفسيرها والاجتهاد فيها ، يحيلها إلى مجلس الوزراء حيث يدور “علك ” الكلام والبحث في جنس الملائكة ، أو في ” فبركة ” ثلث معطل ، غب الطلب ، يكافأ فيه المطيع بمنصب ، أو في صياغة نظام داخلي ينظم علاقات أهل الحكم الذين يستحيل تنظيم علاقاتهم إلا بتدخل خارجي ، الخ ، الخ .

وهكذا يكون المجلس النيابي قد نجح بتعطيل المؤسسات ، واحدة تلو الأخرى. فبعد أن بدأ عهد الوصاية عملية التعطيل الممنهجة ، درب المجلس على تعطيل مؤسسة رئاسة الجمهورية ، ببدعة الترويكا التي همشتها أو بعدم احترام قراراتها بما هي الرمز الوطني لحماية الدستور، أو بدفعها نحو الشغور، كما هي الحال الآن . ثم مؤسسة مجلس الوزراء ، إما بآلية الثلث المعطل أو بالمماحكات التافهة التي تكرر النقاشات الحامية وتنقلها نقلا حرفيا من الشارع إلى طاولة الاجتماع. فضلا عن مسؤوليته بتعطيل سائر مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية والعسكرية من خلال تحاصصها وتوزيعها على مراكز النفوذ الحزبية .

أذا صح تشخيص أزمة الوطن من خلال واحدة من أعراضها الكثيرة ، فيمكن القول إن علة النظام كامنة في قانون انتخاب يجدد لطبقة سياسية لم تثبت فشلها فحسب في حل الأزمة الوطنية ، بل هي ساهمت في تعميقها وتفاقمها ، وفي دفع البلاد نحو حافة الخطر على مصير الوطن والدولة ، وبالتالي فإن المجلس النيابي الحالي عاجز حكما عن صياغة أي حل ، وأن ولوج باب الحل لا يكون ممكنا إلا بقانون انتخاب نيابي يجدد الطبقة السياسية ويحدث تغييرا جذريا في آليات العمل البرلماني.