22-7-2016
الوحش الداعشي الذي يحمل ساطور الذبح، والمقاتل البطل الذي يطلق النار على قوات الاحتلال، والتكفيري الذي يقتل أخاه في الدين، معتزلياً ضد أشعري أو شيعياً ضد سني أو سنياً ضد شيعي، أو عباسياً ضد أموي، والارهابي الذي يفجر نفسه في الطائرة أو في الحافلة أو في قاعة السينما، والسائق الذي يدهس المشاة بشاحنته… كلهم يهجمون مع صيحة الله أكبر. لكن العبارة تقال أيضاً في الصلاة وفي رفع الأذان وعند الاعجاب وفي حفلات الطرب الأصيل الكلثومية.
يخطئ من يقتل، لأنه يقتل، ولأنه يقتل باسم الدين، ويخطئ من يحمل الدين مسؤولية القتل. النص الديني “حمال أوجه وهو لا ينطق بنفسه بل يحتاج إلى رجال”، على حد قول علي بن أبي طالب عن القرآن، وهو قابل للتكيف مع كل أنماط الانتاج الرعوي والخراجي والرأسمالي على حد قول الاقتصادي الماركسي سمير أمين. تقلبت عليه وواكبته متغيرات بدأت من بداوة الجاهلية إلى حضارة الزراعة وصولا إلى اقتصاد السوق.
الماليزي والمغربي والتونسي والقاعدي والداعشي، كلهم يرفعون راية الدين، فيبدو هذا متسامحاً وذاك حقوداً، حتى يكاد يقول المجدفون أن الاسلام ليس واحداً بل متعدد، وهذا خطأ ثالث يرتكب بحق الدين.
يتسلح المؤمن بالنص ليعزز إيمانه بالجنة والنار والحلال والحرام، ويستعين المجرم بتأويل النص ليمارس القتل مع أن القرآن نص “لا يعلم تأويله إلا الله”(الآية). يغرف النحاة منه قواعد اللغة وسر الاعجاز ويتبحر الباحثون فيه لدراسة حكايات الأولين وتاريخهم، ويكتفي الجاهل منه بالاستماع إلى التجويد والتنغيم من غير أن يفهم منه حرفاً واحدا.
الثابت الوحيد والأكيد أن مرتكبي الجرائم ليسوا من النحاة ولا من الفقهاء ولا من البحاثة ولا من المؤرخين، بل ينتمي جلهم إلى صنف الجهلة ممن يعززون جهلهم بعقد نفسية وبطالة وطيش وتسكع، ويتربون منذ الطفولة على الجريمة وانتهاك القوانين الوضعية والاخلاقية والاجتماعية.
مسؤولية النص غير مباشرة، فالآيات التي تنهى عن القتل منسوخة بآيات أخرى كثيرة تنطوي على دعوة معاكسة، لكن التأويل البشري هو الذي يبعثها بمضامينها القديمة قدم الدعوة وظروفها البعيدة مقدار ألفية ونص ألفية من الزمن، أمكن فيها للبشر أن يضيفوا من هلوساتهم إلى النص المقدس وأن يقتطعوا لأنفسهم جزءاً من القداسة، حتى إذا استعصت عليهم الاستعانة بنص من القرآن لجأوا إلى سواه من نصوص دسها بشر في متن الدين ونسبوها إلى أئمة مزعومين.
إذا لم يكن النص مسؤولاً فمن يكون المسؤول إذن؟
هي مسؤولية “الفلتان الفقهي والتأويلي”. ذلك أن المؤسسة الدينية الرسمية في الاسلام السني تحصر همها بإدارة الأوقاف والأموال والممتلكات، بينما تتنافس المرجعيات الشيعية على تحصيل الزكاة وخمس “السادة” من أهل بيت الرسول وجمع التبرعات وإدارة الاستثمارات، وينشغل هؤلاء وأولئك بإدارة الخلاف على قراءة وقائع التاريخ والإمامة والعصمة وهلال شهر رمضان، ويستقوون بالسياسة وتستقوي بهم، تاركين للجهالة الجهلاء أن ترسم الحد الفاصل بين الكفر والإيمان، وتحاكم الفن والفنانين والفكر والمفكرين والعلم والعلماء، فتردي بعضهم كما فرج فودة وينجو بعضهم كما نجيب محفوظ ( من كفّر نجيب محفوظ على رواية “أولاد حارتنا” لم ير الرواية ولا قرأها)، ولا يتورع الجهلة عن تصويب سهامهم إلى أي مبدع في مجالات الفكر والفن، بل إلى أي فقيه متبحر في علوم الدين.
المؤسسة الدينية سعيدة، من غير شك، بهذا الفلتان، وربما يمكن القول، مع بعض سوء الظن، أنها ترعاه لأنها، بالتشجيع على التملص من أحكام القانون تنال حصتها مردوداً مالياً وسلطة دينية وسياسية وثقافية. (من بين مكاسبها المالية إعفاؤها وكل المؤسسات الخيرية والتربوية والجامعية التابعة لها، وكل البضائع المستوردة باسمها، من كل أنواع الضرائب، وعدم خضوعها للرقابة المالية). وهي، فضلاً عن ذلك، تتبادل الخدمات مع السلطة السياسية، فيؤمّن كل طرف منهما التغطية اللازمة للطرف الآخر.
إذا كانت المؤسسة الدينية مسؤولة عن الفلتان، فمطالبتها بالحل أمر مخالف للطبيعة، لأنها غير قادرة ولا راغبة ولا مؤهلة للقيام بمثل هذا الدور. حتى لو تنطحت لهذه المهمة فهي تحتاج إلى أدوات تنفيذية لا تملكها إلا السلطة السياسية. هذا ما تبينه تجارب التاريخ. نابليون هو الذي فرض على الكنيسة التراجع حتى حدود دولتها في الفاتيكان. السلطة السياسية في المغرب أو في ماليزيا على سبيل المثال هي التي فرضت الاصلاح على المؤسسة الدينية وهي التي حددت لها صلاحياتها وجعلت رجل الدين موظفاً حكومياً تابعاً لإدارات الدولة. حتى لو صحت الرواية عن الانقلاب التركي الفاشل، فهو لا يعدو كونه صراعاً بين تيارين دينين يحتاج كل منهما إلى سلطة سياسية تحمي برنامجه وتؤمن له الأدوات اللازمة لتنفيذه.
الحل الذي تملكه السلطة السياسية، بل الذي ينبغي عليها أن تبادر إليه، هو أن تعمل على حماية حرية الإيمان وحرية ممارسة الطقوس، وحماية الدور الديني ، الديني فحسب، المنوط برجال الدين، وحصره داخل المساجد والكنائس، وعلى إلغاء “الدويلات” التي يقيمونها على حساب الدولة، ملحقة المحاكم الشرعية بالقضاء المدني، فتعاملهم كمواطنين وتخضعهم لأحكام القانون على الصعيدين المالي والإعلامي، وتضع حداً لفوضى الألقاب الدينية والدراسية والرتب العلمية، ولتكاثر الدعاة والأمراء والمعممين والأئمة، لأن وراء كل إرهابي أو انتحاري أو حامل حزام ناسف واحداً من هؤلاء المتكاثرين الذين يقدمون لمجنديهم وعوداً بالجنة وحور العين.
البارحة في ميونيخ وقبلها في نيس وقبلها في أرجاء العالم الموصولة قاراته بكل وسائل التواصل والاتصال، براً وبحراً وجواً وعبر الأثير، وغداً في أي مطار أو مدينة أو ملهى أو قاعة سينما ، ما لم تبادر الحكومات الغربية والمحلية إلى معالجة الجذور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لظاهرة الارهاب الأعمى، وما لم تخرج الدين من بطن السياسة، وما لم تضع حدا لتحكم الجهل بمصائر الشعوب.
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام