محمد علي مقلد 1-12-2013
محطة الجديد عريقة في تناول قضية الفساد ، وآخرها الحادثة التي حصلت مع الجمارك اللبنانية ، والتي لها جانب قضائي له من يبت بشأنه ، وجانب إعلامي له من يختص به ، وثالث يتعلق بالحريات العامة ، لا نتردد لحظة في الدفاع عن حرية الصحافة والتضامن مع أي مراسل أو محرر أو مصور أو كاتب تحقيق ، الخ . أما الذي يعنينا هنا فهو الجانب السياسي من المسألة .
ليست المرة الأولى التي تطرح فيها قضية الفساد في حكومات لبنان منذ الاستقلال . أكثر من مرسوم صدر ومضمونه معاقبة الفاسدين في إدارات الدولة بصرفهم أو بإحالتهم على المجلس التأديبي ، أي القضاء الإداري ، أو على القضاء المدني . آخر تلك المراسيم صدر في عهد رفيق الحريري ، بعض الذين اتهمهم المرسوم بالفساد صرفوا من الخدمة وبعضهم ما زالوا ملحقين بالوزارت من غير مهمة .
ولا هي المرة الأولى في تاريخ حكومات العالم ، ففي فرنسا انتحر رئيس وزراء سابق حين افتضح أمر استدانته مبلغا من المال، من أحد المصارف الخاصة ، بفائدة تقل نصفا بالمئة عن الفائدة المفروضة على سائر المواطنين . وفي إيطاليا عاقب مجلس الشيوخ رئيس الوزراء برلوسكوني لأنه تهرب من دفع الضرائب فنزع عنه صفته التمثيلية كعضو في المجلس النيابي…. وفي عهد الخلفاء الراشدين ، صدر عن الخليفة عمر بن الخطاب أمر يقضي بضرورة التمييز بين المال العام والمال الخاص، الخ . الخ . والأمثلة تطول ، إلى حد أن الفساد سيبقى ملازما لغياب العدالة في الملكية وتوزيع الثروة ، وأن الحل الأفلاطوني لمثل هذه الآفة لم يتوفر في أي حضارة في التاريخ ، ولن يتوفر في الأفق المنظور ضمن الحضارة الرأسمالية .
الفساد بمعناه القانوني هو كل انتهاك للقانون ، من قانون السير حتى قانون الضرائب . لكن السياسة اليومية اصطلحت على حصر المعنى بالاعتداء على المال العام . المعتدي من خارج السلطة هو المواطن الذي يتهرب من القيام بواجبه الضريبي ، ومن داخل السلطة هو الموظف الذي يختلس، بطرق شتى ، من المال العام ، فيتحاصص الضريبة مع المواطن ويحرم الخزينة منها ، أو يسرق من صندوق الجباية ، أو يزوّر إيصالات أو طوابع ، وهو السياسي الذي يتجاوز حدود ممارسته السلطة أو يستخدمها لأغراضه الشخصية لا للمصلحة العامة ، فيرتكب بنفسه جريمة المواطن وجريمة الموظف معا ويحمي مملكة الفساد بكل رموزها وأدواتها وآلياتها.
معالجة مسألة الفساد بالإصلاح الإداري، جريا على عادة الحكومات ، تشبه ، حسب المثل الفلاحي، “كي الحمار على جلاله”. وقد تعذر الحكومات لأنها تقوم بذلك عامدة متعمدة ، قاصدة إشاحة نظر الرأي العام عن منبع الفساد . فلو جمع كل ما يمكن أن يتقاضاه الموظفون من رشاوى و”أموال فاسدة” في أي سنة مالية ، لن تساوي صفقة من تلك التي يدبرها سياسيون نافذون . قلت هذا القول ذات مرة لأحد رؤساء الوزراء ، وأضفت: إن شئت أضرب لك أمثلة ، فأجابني إن لديه كل الأمثلة، ولكن! هذه ال ” لكن” كانت تخفي وراءها كل الشكوى من الشراكة التي كانت قائمة بين المتنفذين في النظام اللبناني والمتنفذين في نظام الوصاية ، أي من الفاسدين والمفسدين في النظام السياسي، الذين كانوا يتقاسمون كل موارد الدولة ، ويتحاصصون موازنة الدولة ، بعد أن ألغوا مؤسسات الرقابة و مصلحة المناقصات في وزارة المالية تسهيلا على لصوص السلطة وعملائهم في الإدارة اقتطاع الجزء الأكبر من ميزانيات المشاريع . هذه حال صندوقي الجنوب والمهجرين ومجلس الانماء والإعمار وشركة الكهرباء وسواها من المؤسسات . ومن المؤكد ، على سبيل المثال ، أن شركة كهرباء لبنان كانت مؤسسة استثمارية رابحة ، واستمرت ، حتى انفجار الحرب الأهلية عام 1975، تضخ الفائض من ميزانيتها كل عام في المصرف المركزي ، وهي لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم بسبب ” بخشيش” يتقاضاه الجباة ، ولا بسبب هدر الموظفين لجزء من الجبايات .
لا يعني هذا الكلام دفاعا عن الرشوة والمرتشين ، بل يعني قبل ذلك ، أن منبع الفساد الذي يبرر الفساد الإداري وكل فساد آخر ويحميه هو ذاك الذي يتدفق من دهاليز العمل السياسي اختلاسات بالجملة ويترك للموظفين فتات السرقة ب”المفرق”. موظف الجمارك يقتطع من الضريبة حصة تكبر أو تصغر ، أما السياسي فهو يصادر الضريبة كلها حين يستخدم نفوذه السياسي لإعفاء كل بضاعة مشروعة من دفعها، فكيف إذا كانت التجارة غير مشروعة ؟ يكفي أن نسأل المعنيين عن قوانين حماية الملكية العامة للدولة . أو أن نصغي لهيئة التنسيق النقابية التي تحدت السلطة بتأمين موارد لسلسلة الرواتب من مردود الأملاك البحرية وحدها ،ولم يجد السياسيون ردا على ذلك غير التجاهل ، أو أن نستعرض تقارير شركة الكهرباء وأسماء سارقي الكهرباء والممتنعين عن دفع مستحقاتهم ، الخ . لنتيقن أن منبع الفساد هو في السلطة السياسة لا في الإدارة ، وأن معالجته ينبغي أن تبدأ في منبعه لا في تسريباته الفرعية
لائحة الكلام عن السرقات بالجملة طويلة ومعروفة لدى الرأي العام . حتى لا يكون التركيز على الفساد الإداري كأنه هروب من مواجهة الحقيقة أو كأنه بمثابة حماية مقصودة للفساد الذي يرعاه السياسيون ويحمون مرتكبيه ، على الإعلام ألا يقوم مقام القضاء وأن يكتفي بتبيان الحقيقة بالتصويب حيث ينبغي التصويب .
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام