22 نوفمبر، 2024

التاجر والفاجر

محمد علي مقلد                                                                 24  حزيران 2013

أخذ أحد الاصدقاء على مقالتي السابقة عن اقتصاديي لبنان “الجبناء” ، أنني أغفلت الكلام عن الدور التدميري الذي لعبته الميليشيات ، وعن التشبيح الذي مورس على الاقتصاديين وأصحاب رؤوس الأموال . ومع أنني كتبت مطولا عن التشبيح في الإصدار الأخير ، الشيعية السياسية ، إلا أنني إنصافا للاقتصاديين ورفعا لعتب الصديق ، وإحقاقا للحق أرى أن جبن رأس المال لم يكن شيئا أمام وقاحة التشبيح الميليشيوي وإمعانه في تخريب الاقتصاد وتدمير بنية الدولة ، وهو الذي يصح فيه القول : “الفاجر يأكل مال التاجر”

قال لي صديقي ، مثلك مع الاقتصاديين كمثل أهل القرية مع صاحب الحمار حين جاؤوا يعنفونه بكلام مخلوط بالعتب واللوم والتقريع ، الخ .لأنه لم يتشدد في إجراءاته لحماية حماره من السرقة ، لكنهم لم يقولوا كلمة واحدة بحق الحرامي .

الاقتصاد الرأسمالي المعاصر قونن السرقة . لم يعد الحرامي ثعلبا يدخل خم الدجاج على غفلة من صاحب البيت ، ولا قبضايا من قبضايات الزعيم أو ” تحصيل دار ” لدى الوالي ، يأتي في وضح النهار يجمع الأتاوى لصاحب السلطان ويضيف عليها بدل أتعاب له قد تضاهي ضريبة السلطان ، ولا قاطع طريق أو قرصانا بحريا ، ولا فردا في القبيلة الغازية تنهب ما لذ لها وطاب من مال ونساء، غير آبهة بحرمة أو أخلاق أو آية تنهى ، ” وما آتاكم به النبي فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”.

المعيار الأساسي في الاقتصاد الرأسمالي هو الملكية الفردية. هي عنده مقدسة وموثقة بمستندات  مكتوبة ، لا يجوز المساس بها تحت طائلة المسؤولية والعقاب ، وضمانتها القانون والدولة ، دولة المؤسسات والفصل بين السلطات ، الخ . ومن هذا المعيار انطلقت الحضارة الحديثة لتجعل البشر متساويين أمام القانون ، ومنحتهم الحق بالتساوي في اختبار كفاءاتهم وقدراتهم ومهاراتهم لجني المال وتحصيل الثروة والترقي الاجتماعي ، على أسس من التنافس الحر بين متساويين في الحقوق كما في الواجبات . لا يقلل من قيمة هذا الإنجاز التاريخي حجم تحفظات مشروعة وضعها يساريون ماركسيون على ” حقوق ” أباحت للأقوى أن يجني ، بحماية القانون، أرباحا لا تعادل الجهد المبذول لجنيه.

في مواجهة الدولة والقانون ظهر الطفار وقبضايات الأحياء والدساكر، وبكوات وخواجات وأمراء وآغاوات وشيوخ قبائل وعشائر وعائلات ، ثم رفاق وأخوة في الحركات اليسارية والقومية والدينية، كلهم قاموا ضد الدولة بالتناوب . دولة القانون مضت عبر الأجيال صعدا ، وراحت تنحو باتجاه تعزيز الديمقراطية واحترام الرأي الآخر ، في حين راحت حركات الطفار تتقهقر نزولا ، حتى بلغت دركها وحضيضها بالميليشيات المسلحة . الطفار كانوا يحملون قيم الفروسية والنبل ، وكان من الطبيعي أن يروا في دولة القانون كائنا غريبا عن قيمهم السياسية ، أما من تلاهم فقد صعدوا من حضن الدولة ومن رحمها ليقضوا عليها ، وليسرقوا خيراتها ، ويدمروا مؤسساتها .

القبائل والعشائر لها هي الأخرى قيمها وتحترم الحدود المرسومة بين حدود الكرامة والشرف والعفو عند المقدرة ، كما تحترم حدود السلطة الأبوية وتنصاع للأكبر سنا والأنضج تجربة .

القيم الجميلة والأحلام الكبرى التي حملتها الأحزاب لم تشكل مبررا كافيا لمساعيها إلى هدم الدولة واستبدالها ، لأنها سرعان ما توسلت العنف من أجل التغيير ، فتحولت تحت عبء السلاح إلى ميليشيات خارجة على القانون .

على أن أبشع أنواع الميليشيات هي تلك التي جندت مناصريها بقوة التحريض الطائفي ثم المذهبي ، ما غيب السياسة بمعناها النبيل عن نشاطاتها ، فانتهكت القوانين الوضعية والقوانين الأخلاقية ورسمت نموذجا للسياسي الآتي من تربية التشبيح الميليشياوي المجافية لكل لمعايير ، وأباحت كل أنواع النهب والسرقة والقرصنة  واللصوصية ، وشرعنت فرض الخوات وأعادت فرض الأتاوة ، وتسترت بالتشريعات الدينية المحمية بالقانون ، ما سهل عليها السطو على المال العام بلا خجل ولا وجل ، وبلا رقيب ولا حسيب .

زاد في الطين بلة وصول الميليشيات بشحمها ولحمها إلى سدة المسؤولية وامساكها مقاليد السلطة ، فصار حاميها حراميها ، وتبدل دور الدولة من ناظم للصراعات الاجتماعية والاقتصادية إلى طامس لها ، فألغت المسافة بين العمل ورأس المال ، وبين سلطة ومعارضة ، وبين المصالح الوطنية والمصالح الشعبوية التي لا يستفيد منها غير أرباب المحاصصة من ممثلي الطوائف والمؤسسات الدينية . وللتملص من العقاب ، أمعنت الميليشيات تدميرا في بنية القضاء وتشويها لسمعته.

لا يؤتمن الحرامي على مال ولا المجرم على قانون . لقد بات لا مناص من انتزاع الدولة من أيدي الميليشيات . لا بد من أحزاب تؤمن بضرورة وجود الدولة  وتعمل على إعادة بنائها وحماية مؤسساتها .  ولا بد من مبادرة يتولاها اقتصاديو لبنان ويسترجعون ، بموجبها ، الوكالة التي منحوها للطبقة السياسية الحاكمة ، ويستعيدون مصادقتهم على اغتصاب الميليشيات الحزبية والطائفية والمذهبية السلطة ، ويقطعون عنها أبواب التمويل ، لا من المال العام وحده بل من أموال القطاع الخاص أيضا .

بغير ذلك لن يبنى وطن ولن يعاد بناء الدولة .