22 نوفمبر، 2024

أميركا السباقة في حرق المراحل

محمد علي مقلد                                                               6-5-2013

من يتمعن بتاريخ أميركا الرأسمالية يتيقن من أنها كانت أقدر من روسيا الاشتراكية على “حرق المراحل” ، هذا المصطلح الذي يعد من قاموس الماركسيين . أميركا نجحت في حرق مرحلة بكاملها فبنت الرأسمالية من غير المرور بحضارة الخراج أو العصر الإقطاعي ، فيما أخفقت الثانية بحرق ما قبلها عندما حاولت  القفز فوق المرحلة الرأسمالية ، والانتقال بالمجتمع الروسي دفعة واحدة إلى الاشتراكية .

الرأسمالية نجحت مرتين ، حين أثبتت قدرتها على الممانعة والمقاومة ومنعت الاشتراكية من شطبها وأقنعت التاريخ  أنها محطة إلزامية من محطات تطوره ، وحين تمكنت من حرق التجربة الاقطاعية والاستغناء عنها في أميركا . وفي المرتين كان انتصارها ذا كلفة عالية.

رأسماليو أوروبا الهاربون من بطش الكنيسة ومن تخلف العلاقات القائمة بين النبلاء والفلاحين، تعاملوا بقسوة مع سكان البلاد الأصليين ، كما أن الهنود الحمر ارتابوا من هذا الوافد الجديد ، فكان الصدام حتميا .

يقال إنه لم يبق من أهل البلاد البالغ عددهم ، في ذلك الحين ، خمسين مليونا ، سوى مليونين . الرأسمالية استأصلت الحياة القبلية والعشائرية ، وزرعت في البلاد محصلة ما توصلت إليه في أوروبا: حضارة جديدة ومهاجرين. الأوائل منهم كانوا من البروتستانت الهاربين من لظى الحروب الدينية ، ومعظمهم من أوروبا الشمالية ، بريطانيا والبلدان المنخفضة ، ولهذا سميت تلك البلاد في البداية ، أنكلترا الجديدة . في حين كان سكان أميركا الجنوبية من الإسبان والبرتغاليين السباقين إلى اكتشاف القارة الجديدة.

الرأسمالية الأوروبية المهاجرة وفرت الدليل على ما قاله ماكس فيبر عن الدور الحاسم “للأخلاق البروتستانتية ” في صنع الرأسمالية ، اعتراضا على فكرة ماركس عن الدور الحاسم للبنية التحتية والصراع الطبقي وآليات السوق والاقتصاد الحر ، ” دعه يعمل ، دعه يمر”.

الرأسمالية دمرت البنى الاقطاعية في أوروبا في مواجهة الكنيسة المعاندة ، لكنها ، في أميركا ، دمرت القبائل العزل من أي سلاح غير الطقوس الاسطورية، فيما هي كانت قد استقدمت معها من أوروبا السلاح الناري الذي شكل منعطفا في تاريخ الحروب .

هذه القدرة التدميرية الهائلة لم تبق من تاريخ الهنود الحمر غير بعض الطقوس والذكريات المحفوظة في المتاحف . القليلون منهم هربوا نحو معتقدات جديدة مشتقة من الأناجيل . المورمون أكبر هذه المجموعات عددا والأوسع انتشارا، يعدون أكثر من 45 % من سكان يوتا ، الولاية الشاسعة ، العاشرة من حيث المساحة ، والقليلة السكان ( حوالي أربع ملايين نسمة …بعدد سكان لبنان وبمساحة سوريا) لهم كنيستهم وطقوسهم ، ومنهم ترشح أحدهم لمنصب نائب رئيس أميركا. هؤلاء بادروا إلى كتابة التاريخ غير المكتوب ، داخل بناء ضخم يضم آثار جماجم بشرية تعود أولاها ، التي تشبه جمجمة القرد ، إلى عشرات آلاف السنين ، وهياكل حيوانات بعضها مما قبل الديناصورات الأولى. لكن هذا المتحف يؤكد الحقيقة ذاتها : لا وجود لحقبة إقطاعية ، لا كنائس ولا تماثيل قديمة ولا قصور ولا ملوك ولا قديسون . كل تاريخهم لا يتجاوز القرن. هم ثورة داخل الثورة . احتجوا على اجتياح البروتستانتية فاشتقوا من الكتب المقدسة ديانة ليتميزوا عن الغزاة الأوروبيين ، لكن ليس إلى الحد الذي يضعهم في مصاف الأعداء . إنه مجرد تنويع على الأصل .

 والحال إن الأصل في التاريخ الأميركي هو أن الرأسمالية أوقفته عند الأساطير التي أسهب كلود ليفي ستروس في الحديث عنها ، ثم استأنفته عبر أجيال من العلم والتكنولوجيا استخدمتها في عمليات غزو كانت أميركا الشمالية ضحيتها الأولى ، أو ربما إنجازها الأول ، ولم يتوقف لا في أعالي الفضاء ولا في أعماق المحيطات .

يقال في أميركا أن ولايات الغرب الأميركي كانت من أملاك المكسيك ، والحقيقة أن البلاد التي سميت لاحقا الولايات المتحدة الأميركية اغتصبت الأراضي التي كانت كلها ملكا لسكان أصليين من الهنود الحمر ، انقرضوا أو أبيدوا ، بل إنهم كانوا الفدية التي دفعتها القارة لتنتقل من القبيلة إلى ناطحات السحاب ، ومن طقوس الرقص الجماعي لطرد الشياطين إلى طقوس في ممارسة الحرية الفردية لا تشبه التقاليد التي

 تربى عليها أمثالنا من أهل الشرق أو من خريجي اليسار.

ما استعصى فهمه على الأصوليات القومية والدينية والماركسية ، هو أن المسافة كبيرة جدا بين قوانين المجتمع وقوانين الدولة . للمجتمع ، بل لكل فئة أو جماعة أو ملة أو كتلة اتنية فيه ، ملء الحرية في اختيار ما يناسبهم من قيم وفي ممارسة ما يحلو لهم من طقوس وعادات ، لكن المصالح العليا للدولة شأن آخر قد لا يكون المجتمع معنيا به ولا مسؤولا عنه . غير أن أفراد المجتمع ، مهما بلغوا من التنوع ، متساوون أمام القانون الذي ترعى الدولة الأميركية تطبيقه بالعدل على الجميع ، في حين تدير سياستها الخارجية بما يضعها ويضع شعبها في مواجهة العديد من شعوب العالم . إنها الحقيقة الرأسمالية أيضا وأيضا، التي تجعل الشعب الأميركي شعبا ودودا ودولته عدوانية . وذلك ، في الحالتين ، لضمان مصالح رأس المال.