24 نوفمبر، 2024

كيف تصنع انتحاريا

محمد علي مقلد                                                                         24-11-2013

منذ عقدين من الزمن ، في أحد نهارات الجمعة ، اعتلى المنبر ، في أحد مساجد صيدا ، معمم مفوه وراح يقذف من خطبته حمما موجهة ضد إسرائيل والصهيونية . وما أكثر الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وبحق الشعب اللبناني ، إذ كانت لا تزال في حينه تحتل جزءا من الأراضي اللبنانية وتقوم بالاعتداء على ما تبقى من الأراضي المحررة ، وترتكب المجازر بقصفها الهمجي .

 وبما أن الحرب الكلامية عابرة للقارات ،كان لا بد له  أن يعرج على أميركا ، فهي التي تقدم لحليفتها السلاح ، وهي التي ،على ذمة خطاب الأصوليات القومية والدينية واليسارية، تدافع عنها في المحافل الدولية وهي التي تمتص دماء الشعوب وتعتدي على سيادتها وهي التي تزودها بالطيران الحربي الذي يقتل أطفالنا ونساءنا ويعربد في سمائنا ، الخ ، الخ . .( كل هذا صحيح طبعا لكنه يقول نصف الحقيقة ويخفي النصف الآخر المتعلق بمسؤولية أصحاب الخطاب).

في القسم الثاني من الخطبة كلام عن الجنة وحور العين والجهاد في سبيل الله… تفعل الخطبة فعلها في النفوس تحريضا على العدو فتمتلئ القلوب غيظا وحقدا ، ولا تجد مخيلات المؤمنين غير التحليق في صور الجنة والجهاد في سبيلها لا بأضعف الإيمان ، اللسان ، بل بأقواه ، بالسيف ، ويعود كل إلى بيته مشحونا بكره الأمبريالية ورموزها وسفاراتها وحاملي جوازات سفرها ومنتجاتها ، ويتعمم الكره على كل أصحاب البشرة البيضاء والمتعاملين بالبضائع الأميركية .

عين المعمم بصيرة وكلامه يخترق الحدود ويعبر القارات، أما يد المشحون المحرض المعبأ فهي قصيرة ، ولا تجد أمامها إلا ما يرمز إلى العدو . في اليوم التالي ، نهار السبت ، حمل أحدهم السلاح وقصد المستوصف التابع للمدرسة الإنجيلية في المدينة وأطلق النار على أول موظف يعمل فيه وأرداه.

هذه من الحوادث القليلة النادرة التي تحصل فيها جريمة قتل في صيدا ، حتى لو كانت ذات مضمون سياسي . ويتندر أهل المدينة بأن محاكمها خلو من دعاوى جرائم القتل منذ أن تشكلت فيها المحاكم . ومن الطبيعي إذن أن يتبرأ أهل المدينة من الانتحاري الذي أقدم على تفجير نفسه أمام السفارة الإيرانية ، لكن من يتابع الأحداث في المدينة منذ أيار 2008 يعرف كيف و من أين يولد الانتحاري وكيف يصنع .

أهل المدينة مسالمون لا يحبذون العنف لكن ظاهرة الأسير نشأت نطفة من بطن ذاك الحدث ، يوم استباح المدينة مسلحون من خارجها مع حلفاء لهم من ميليشيات الممانعة وقتلوا شخصين  من سكانها ومن مواليد كفرشوبا. لم يخضح المستبيحون للمساءلة ولا نالوا جزاءهم ، في وقت كانت تتفاقم أزمة لبنان والمنطقة والصراع الإيراني العربي ، وراحت ممارسات حزب الله تصب زيت الاستفزازات ضد الحكومة ورئيسها على نار الضغائن الناشئة من اغتيال الرئيس الحريري ، فترتفع نبرة التهديد والوعيد والتعالي وتحدي الدولة والقانون والسلم الأهلي ، فيما يبدو تيار المستقبل مسالما مستكينا مبالغا في تحليه بالصبر وانتظار النصر يأتيه من خارج الحدود. كان من الطبيعي أن ينفجر الاحتقان المتراكم من النقطة الأضعف في جسد المدينة ، من نقطة التعصب والتطرف والميل إلى مواجهة العنف المذهبي بعنف مماثل ، فكانت ظاهرة الأسير مولودا طبيعيا لهذا المناخ.

أعرب أهل المدينة عن رضى ضمني حيال الظاهرة لأنها تنفس احتقانا موجودا في النفوس ، لكن مناخ الاعتدال السائد في المدينة منع عنها  الرعاية و الاحتضان و التشجيع . وبدل توظيف مناخ المدينة هذا لمحاصرة التطرف و تقليص رقعة هذه البؤرة المعزولة في إطار مسجد بلال بن رباح وبعض البيوت المبعثرة ، تم التعامل معها لا بصفتها ردة فعل على التطرف بل بصفتها هي أصل التطرف ، فتم التخطيط لاستئصالها بالقوة العسكرية ، لا من قبل جيش الدولة وحده بل بمشاركة من دفع إلى ولادتها كردة فعل على تطرفه. و صار من الطبيعي أن ينمو في ظلها مناخ الانتحاريين .

 لا عجب إذن إن ظهر انتحاريون جدد من بقايا ظاهرة الأسير في ظل معالجات لا ترفع الظلم عن المظلوم بل تمعن في ممارسة الاستبداد عليه.

 فاقم القهر واشحن المقهورين  تصنع  من بينهم انتحاريا