محمد علي مقلد 20-6-2014
يقول صديقي أنه قرأ أكثر من مئتي مقالة عن أحداث العراق ولم يعرف حقيقة ما يجري هناك . ذلك أن كل منهج من مناهج التحليل يقول وجها من الحقيقة وتخفى عليه وجوه ، وهذا أمر طبيعي، يشبه فيلسوف الشاعر العباسي أبي نواس ، ” قل لمن يدعي في العلم فلسفة ، عرفت شيئا وغابت عنك أشياء”.
نظرية المؤامرة هي الأكثر هشاشة . لا تستقر فيها الحقيقة على قرار . فمن يقف وراء داعش والمسلحين الذين حرروا الموصل من الجيش العراقي ؟ تركيا ؟ السعودية ودول الخليج ؟ ولو صح ذلك ، فما هو دور إيران ، ولو صح ذلك فما هو دور الولايات المتحدة ؟ وهل يمكن أن تكون متحالفة مع المسلحين ضد النفوذ الإيراني ، أم أنها ستدافع عن النظام العراقي وعن نوري المالكي ، مع ما يستتبعه ذلك من تحالف منطقي مع إيران ؟ ومن أين التمويل والتسليح اللازمين لمثل هذه العملية العسكرية ؟ وهل يمكن ألا تكون أجهزة الاستخبارات التركية أوالإيرانية أوالسورية أوالعراقية على علم بها ، ولماذا لم تستدرك الأمر قبل فوات الأوان ؟ إلى آخر الأسئلة التي لا تجد جوابا لها في التحليل المستند إلى نظرية المؤامرة .( فيما أنا أكتب النص ، ورد خبر يفيد بأن النظام العراقي طلب من الولايات المتحدة مساعدته ضد المسلحين )
نظرية الصراع الطبقي ، على ما أعتقد ، عاجزة بدورها ، عن فك الألغاز .لأن الصراع الدائر الآن في العراق ليس صراعا بين مالكي وسائل الانتاج والطبقة العاملة . مثل هذا قد يكون صحيحا ، ولكن ” في آخر التحليل ” ، فيما نحن الآن لا نزال في أول التحليل .
النظرية القومجية تنطوي ، هي الأخرى ، على كمية هائلة من الحنين إلى أيام خلت وسبقت الغزو الأميركي للعراق ، وعلى كمية موازية من الأحلام التي تستعاد فيها بطولات وهمية ضد الاستعمار والرجعية والصهيونية ( فيما أنا أكتب النص ورد خبر عن إعدام القاضي الذي حاكم صدام حسين وأصدر الحكم عليه ).
ربما تكون محاربة الارهاب أضعف نظريات التحليل لأن داعش والنصرة وحلفاءهما هي تارة من صنع المملكة ودول الخليج أو تركيا ، وتارة من صنع النظامين العراقي والسوري وحليفهما الإيراني ، وتارة هي وريثة القاعدة ، الخ . والإرهاب ، في جميع الحالات فزاعة يستخدمها النظام ليحمي نفسه ويستدرج التضامن معه .
تقوم فرضيتي أن نظرية الاستبداد هي الأكثر تماسكا ، وهي الأكثر إحاطة بالأسئلة المتعاكسة والمتقاطعة . وخلاصة التحليل ، على هديها ، أن ما يجري في العراق اليوم هو انتفاضة في مواجهة نظام الاستبداد وحكم المالكي ، وبهذا المعنى يمكن وصفها بأنها إحدى حلقات الربيع العربي التي بدأت بسقوط الطاغية صدام حسين ، وإن بدا المنسوب الثوري فيها ضعيفا لكونها حصلت بقوة صاعق خارجي تعامل البعض معه كمساعد على إطاحة رأس نظام الاستبداد ، فيما تعامل آخرون معه بصفته احتلالا اجنبيا ، بل ، ويا للهول ، أطلسي امبريالي أميركي . هذا لا يعني إشادة بالعامل الخارجي الذي رأى فيه العراقيون وسيلة ممكنة لا بد منها لإزالة عامل الاستعصاء أمام نهضة عربية بدا من المستحيل ، تضمينها المعنى الوحيد للنهضة ، ألا وهو نقل العالم العربي من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة اقترن وجودها بالحضارة الرأسمالية .
الحلقة الأولى هذه نجحت في إزالة جبل الاستبداد العسكري البعثي الكيماوي النووي الذي تجسدت فيه أكثر أسلحة الدمار الشامل فتكا ، كما نجحت في كسر عقدة الخوف التي ربضت على صدور العراقيين ردحا طويلا من الزمن القومجي المتاجر بالقضايا القومية وفلسطين والوحدة العربية ، ما شجع المتضررين من الاستبداد الجديد على مواجهته بسهولة أكثر من ذي قبل . غير أن القوى المشاركة في الانتفاضة هي أيضا تنتمي إلى عصور مختلفة من الاستبداد ، الديني والعرقي والعشائري والتوتاليتاري ، ما سيعقد مصير الانتفاضة ، ويضع العراق أمام مخاطر شتى.
أنظمة الاستبداد ، على اختلاف نسخها ، تضع بلادها أمام خيارين ، إما استمرارها مؤبدة بالوراثة أو بالتعيين أو بالانتخابات المزورة ، إما التهديد بخطر الحرب الأهلية ، وهي لا تتورع أبدا عن الدخول فيها وعن استخدام كل وسائل الشحن المذهبي والطائفي والعشائري ، كما لا تتورع عن استدراج القوى الخارجية والاستقواء بها .
ولن تتوقف مواجهة الاستبداد ، التي اتخذت في بعض بلدان الربيع العربي شكل الحرب الأهلية (سوريا والعراق واليمن ولبنان) إلا إذا كانت البدائل من صنف آخر ، غير ذاك الذي ينتمي إليه المستبدون بأحزابهم وتنظيماتهم وعقولهم وسلوكهم .
استنادا إلى هذا المقياس، تعتبر الحرب الأهلية اللبنانية النموذج الأول لربيع فشل في تحقيق مهماته لأن البدائل عن الاستبداد الطائفي والمذهبي كرست عاهات النظام التحاصصي ، ولأن الثورة على الاستبداد استعانت بأنظمة الاستبداد العربي ما جعل مهمتها شبه مستحيلة .
كل قراءة لأحداث العراق تضمر حلا للأزمة . وإن كانت كل القراءات تجمع على تحميل المسؤولية للمالكي ( ما عدا القراءة المالكية ) ، فإن البدائل المضمرة والمحتملة هي من طبيعة النظام القائم ، لكنها ، بالتأكيد ، لن تكون قادرة على ممارسة الاستبداد بالوتيرة ذاتها وبمستوى العنف ذاته . كل ذلك يحصل ولا تزال القوى اليسارية والعلمانية قاصرة عن قراءة تجربتها السابقة بعين نقدية ، وربما لم تقتنع بعد بأن حل الأزمة العراقية وسائر الأزمات التي تعصف بالمجتمعات العربية لن يكون ممكنا إلا بربيع يمهد لقيام الدولة الديمقراطية ، دولة القانون والمؤسسات والمواطنة .
مقالات ذات صلة
حراك “أبو رخوصة” وحيتان المال
ثقافة الميليشيا
المال الحرام