12 نوفمبر، 2024

الثقافة وحرب النجوم وخيبة أمل الأونيسكو

        احتلّت شركة موبيل أويل الأميركية عام 1983 المركز الثالث من بين المؤسّسات الأكثر أهمية، والتي يبلغ عددها أكثر من خمسماية مؤسّسة، ويقع ترتيبها مباشرة بعد مؤسّسة أكسون وجنرال موتورز. وقد كانت مبيعاتها قد ارتفعت إلى أكثر من ستين مليار دولار؛ فكان من الطبيعي، إزاء هذه الوقائع أن يكون إدموند هينلي، مدير الشركة، ذا خطوة في أوساط البيت الأبيض باعتباره رجل أعمال ناجح، ولذلك عيّنه ريغان رئيس بعثة بلاده إلى المؤتمر العام الثاني والعشرين لمنظمة الأونيسكو. مبرّر هذا الاختيار هو أنّ نشاط رجال الأعمال يؤخذ بعين الاعتبار في عملية التوجيه الثقافي في الولايات المتحدة الأميركية.

        وهكذا ذهب السيد هنلي ليقدم تقريره عن الأونيسكو أمام لجان متفرّعة عن مجلس النواب. كان ذلك في الخامس والعشرين من أبريل 1984، أي بعد خمسة أشهر على إعلان جورج شولتز عن رغبة بلاده في الانسحاب من المنظمة.

        كان تقرير السيد هنلي شديد الوضوح حول نوايا مسؤولي البلاد حيال الأونيسكو، وحول الدوافع الفعلية التي أملت عليهم قراراتهم، وهي قرارات تطال مجمل النظام الدولي، والقوانين التي توافقت عليهما كافة الأُمم، بعد الحرب العالمية الثانية. والجدير بالذكر أنّ المآخذ على منظمة الأونيسكو قد ذكرت في التقرير، وكانت هي ذاتها قد ذكرت في مجلة الإكسبرس الباريسية، كما في مقال كتبه الصحافي الأميركي بول شوتكوف تحت عنوان: التحدي الغربي ونشره في السابع من مارس 1981. وهذا ما يشير إلى أنّ الحملة على الأونيسكو هي حملة مخطَّطة ومنظَّمة وهي ليست أبداً طارئة.

        أصبحت منظّمة الأونيسكو، في نظر إدموند هنلي، مؤسّسة خاضعة لمنطق العمل السياسي، ومنحازة كلياً ضد إسرائيل، ومتأثّرة أكثر بمنطق دول العالم الثالث والاتحاد السوفياتي ضد الدول الغربية. كما أنّ السيد هنلي يتّهم الأونيسكو بالانحياز إلى حرية الأُمم والشعوب على حساب حقوق الإنسان الفرد، وبأنّها المسؤولة عن ربط التربية والثقافة والعلوم بعملية السلام، ممّا يشكّل خير مساعد للدعاية السوفياتية، حسب قول المسؤول الأميركي.

توجيهات هجومية

        ذهبت البعثة الأميركية إلى المؤتمر بعد أن زُوّدت بالتعليمات التالية:

  1. ينبغي التأكُّد، قدر الممكن، من أنّ المؤتمر لن يكون اجتماعاً حسيساً ولن يكون مكاناً لسجالٍ يخدم مصالح الدعاية المضرة بالسياسة الأميركية، ولن يتجاوز جدول أعماله المقرّر حول البرنامج السنوي والميزانية.
  2. ينبغي أن يحذف من قسم الاتصالات في الأونيسكو كل ما من شأنه الحد من حرية الصحافة، بالمفهوم الغربي للكلمة، وقد كانت هذه الرغبة تنطوي عل تعميم المفاهيم الأميركية حول “الصحافة الحرة”.
  3. ينبغي اختزال الميزانية إلى حدود معقولة، تنسجم مع معدلات التضخم التي يشهدها الاقتصاد الأميركي والأوروبي بوجه عام.
  4. ينبغي التمييز، في عمل الأونيسكو، وفي قوانينها المرعية، بين حقوق الإنسان، بالمعنى التقليدي للكلمة، وبين حقوق الشعوب التي تحتاج إلى جهود كبيرة من أجل التعريف بها وتحديدها.
  5. ينبغي التصدي لمحاولات جر الأونيسكو إلى مواقع يمكن أن تستفيد منها الحملات الداعية إلى نزع السلاح وإقامة السلام.

ولم تكن تلك التوجيهات الرسمية للبعثة سوى تكراراً لأفكار المذكّرة التي بعث بها السيد وليم هارلي إلى مديرية الدولة بتاريخ 9 فبراير 1984.

وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت الولايات المتحدة راغبة في استبدال المدير العام لمنظمة الأونيسكو مهتار مبوي، وهو سنغالي، بعد أن اتهمته بتحويل المنظمة إلى مؤسّسة أفريقية.

لقد تضمّن تقرير هنلي إشارات واضحة إلى عزم الولايات المتحدة على مغادرة منظمة الأونيسكو إذا لم تستجب لشروط البيت الأبيض، وبتعبير آخر، لم يعد جائزاً أن تبقى منظمة الأونيسكو على قيد الحياة إذا لم تكن في خدمة مصالح إحدى المؤسّسات الأميركية الوثيقة الصلة بالسيد هنلي، والتي هيّأت له تقريره أمام المؤتر، وهي التي وضعت منذ العام 1981 أحد عشر عضواً من أعضائها في خدمة الرئيس ريغان، بل في عداد فريق العمل الذي يساعده، والتي موّلت الحملة الإعلامية والدعائية “لحرب النجوم”، والتي وظّفت عدداً كبيراً من البحّاثة والعلماء للإشراف على البرامج الثقافية والروحية والأخلاقية في الولايات، وقد خصّصت مبالغ كبيرة جداً للبحوث الدينية واللاهوتية.

القضاء على المؤسّسة الدولية

        إنّ ما تريد مؤسّسة إيريتاج فوندايشن السالفة الذكر فعله هو القضاء على أنظمة الأُمم المتحدة وإلغائها، لا سيما في المجال الثقافي، وذلك بتدمير مؤسّسة الأونيسكو التي تعمل على إقامة الحوار بين الثقافات على أساس الاستقلال التام والتفاعل الخلاق. ومن المفيد في هذا المجال إيراد مقطع قصير من كلمة السيد كريستول أحد زعماء الإيديولوجية الريغانية أمام مؤتمر إحدى المؤسسات الأميركية، يقول: “لقد كانت وظيفة الأُمم المتحدة الأساسية إيجاد ما سمّي بالعالم الثالث. فإذا ألغينا المنظمة الدولية نلغي هذا الشيء الذي أوجدته، والذي يشكّل كتلة متماسكة في مواجهة الولايات المتحدة، ممّا يجعل ضرورياً، من أجل الحفاظ على مصالحنا، أن نلجأ إلى تصفية المنظمة كلياً”.

        تتأكّد هذه النوايا في كلام دبلوماسي يصدر على لسان السيدة كيركباتريك، وكانت يومذاك، سفيرة بلادها لدى منظمة الأُمم المتحدة، حيث قالت: “إنّ هذه المنظمة الدولية التي علّق عليها روفلت آماله قد خيّبت آمال ألأميركيين”.

        في مقابل ذلك وقف ستيفان لويس، سفير كندا لدى الأُمم المتحدة، ليعلن، في فبراير 1985، أنّ المنظمة الدولية يمكن أن تشكّل “الأمل الوحيد للبشرية”. وقد جاء ذلك في سياق دعوة منظمة الأونيسكو الموجّهة إلى واشنطن للعودة عن قرارها، معبّرة، في ذلك، عن الرغبة في استمرار العلاقات الطيبة مع كافة الدول.

        بين المنظمة الدولية التي خيّبت آمال كيركباتريك والأميركيين وبين واشنطن التي خيّبت آمال الأونيسكو وعالم الثقافة، ينتظر العالم اليوم صحوة أميركية تعيد للثقافة موقعها في بلد التكنولوجيا، وتعطيها حقها الذي اغتصبته منها الدعوة إلى حرب النجوم.