20 أبريل، 2024

الخطبة الحنجرية

 27-5-2013

جمهور المترقبين  الذين ينتظرون موعد الخطاب ، أي خطاب ، ليس حديث السن ولا هو من مواليد حرب تموز 2006. نحن من جيل كان ينتظر عبد الناصر خطيبا ، منذ كان المذياع وسيلة النقل الإعلامي الوحيدة ، والمتحلقون حوله كانوا يتبادلون النظرات ويتشاركون علامات الإعجاب والحماسة من غير أن يروا وجه الخطيب . كانت آذان المحبين والمعجبين والمؤيدين والمحازبين تعرف بصمة صوته فتميزه  من بين آلاف الأصوات . ثم جاء النقل المباشر ، بتقنياته البدائية وصوره الرجراجة والمغبشة بالأسود والأبيض ، فصار المستمعون لا يتحلقون حول صوته فحسب، بل حول صورته أيضا ، وتكتمل عناصر الكاريزما بإعلان الموقف الجريء الذي يكسر روتين الهزائم المتوالية تترى، وخصوصا النكبة العربية في فلسطين .

تكبر الكاريزما بكبر التحدي . عبد الناصر تحدى الغرب الاستعماري وأمّم قناة السويس ، فصار خطابه لحظة ينتظرها كل متحمس للمواجهة . الشيوعيون اللبنانيون كانوا يقصدون سوريا ليستمعوا إلى خالد بكداش خطيبا والتنظيمات الفلسطينية وشقيقاتها اللبنانية كانت تنتظر خطباءها على منابر تكريم الشهداء . آخر نسخة من الخطب الحماسية تلك التي دشنت عصر جماهيريتها مع  الأمين العام لحزب الله وباتت مطلبا ، بعد سلسلة خطاباته في حرب تموز.

الخطاب وسيلة استنهاض شعبي ، وهو أقرب الطرق للوصول إلى عقول السامعين ، بل هو وسيلة شحن للنفوس لا توازيها في فعلها كل وسائل الاقناع العلمي ،ولا سيما لدى الشعوب التي لا تتطلب جرعة كبيرة من الايديولوجيا ، بل يكفي الحك على جلد غرائزها النائمة فتثور كالمدبرة ( بيت الدبابير).

بعض خطابات عبد الناصر أو كاسترو كانت تستغرق ساعات ، وغالبا ما تكون مرتجلة . ويكبر اعتزاز المستمعين بخطيبهم بمقدار ما يطول الخطاب. في المقابل رؤساء الدول الكبرى في أميركا و فرنسا و إيطاليا واليابان أو سواها أو المسؤولون فيها أو وزراء خارجيتها، يهيؤون نصا مكتوبا لا يتجاوز الدقائق . هم ينتصرون من غير خطاب ونحن نمعن في الخطابة والهزيمة …

خطب عبد الناصر توهجت في قرار التأميم وبعد معركة السويس وفي الإعلان عن القاهر والناصر والظافر ، الصواريخ التي قال عنها سعد الدين الشاذلي أنها شكلت عبئا على القوات المسلحة المصرية في حرب اكتوبر ، وبلغت أوجها في إعلام أحمد سعيد الذي لم يجد من يبزه ويتفوق عليه إلا وزير الإعلام العراقي المشهور ، الصحاف . وصواريخ سيده صدام حسين .

النسخة الأخيرة من هذا الأسلوب التعبوي مرفقة، هي الأخرى بصواريخ تختلف عن سابقاتها بالأذى، ولو محدودا، الذي تسببت به للعدو الاسرائيلي فارضة عليه إجراء تعديلات في خططه الستراتيجية والتكتيكية وتعديلات أخرى على أسلحته البرية. مع ذلك ، لا تراها العين النقدية إلا نسخة من كل الصواريخ القديمة والجديدة التي هددت القوى القومية الحاكمة بها ، لكنها وجهت التهديد ووظفته  لتخويف شعوبها وتحسين شروط الاستبداد الداخلي ، لا لمقاتلة العدو.

في مؤتمر لما تبقى من القوى القومية العربية ، انعقد في اليمن في العقد الأخير من القرن الماضي ، برئاسة الجزائري هواري بومدين ، قيل كلام كثير ولم يتوصل المجتمعون إلى أي قرار . قال أحد الظرفاء المصريين : إنها خطابات حنجرية .

في الأدب ، سئل أحد النقاد عن معيار الأجنبي في الحكم على قصيدة عربية مترجمة ، قال ، لا يترجم في الشعر إلا معنى المعنى ( الجرجاني) ولكل لغة موسيقاها ولا ينتقل الضجيج بالترجمة .

الكلام السياسي في بلادنا مليء بالصخب والضجيج على حساب المعنى ، فمتى سيحل عصر النقاش الهادئ محل الخطابات الحنجرية؟