22 نوفمبر، 2024

أميركا من غير أميركيين

 20-5-2013

في شوارع الولايات المتحدة ، كما في بيوتها وشركاتها وحاناتها ومخازنها الكبرى ، وكذلك في جامعاتها ومراكز أبحاثها ، وفي جيشها وشرطتها ، وفي فنادقها ، نزلاء وموظفين ونادلين …الخ ، لا تعثر على صورة نمطية للأميركي ، مثلما هي الحال للهندي أو الصيني أو الروسي مثلا . بل تجد أخلاطا من الناس من مختلف الألوان والأشكال والإتنيات والقوميات واللغات ، من أقصى الشرق الصيني إلى أقصى الغرب اللاتيني وبقايا الهنود الحمر ، مرورا بالأفارقة الذي بدأوا عبيدا هناك وانتهى أحدهم رئيسا للجمهورية في أقوى دولة في العالم.

 صورة أميركا في مخيلتنا، الموروثة عن الحقبة السوفياتية أو الخمينية ،هي صورة الامبريالية أو الشيطان الأكبر ، وهي تحيل دوما إلى عدو . هي البلد الذي توجته الحضارة الرأسمالية ملكا على “العالم الحر”، نسبة إلى الاقتصاد الحر ، في مواجهة مملكة الاقتصاد الموجه، نسبة إلى البلدان الاشتراكية . ضدان لا يلتقيان ، واحد يعمل لصالح البشرية والسلم العالمي وآخر يستثمر الانسان وخيرات الأرض  ليبني من عرق البشر ومن دمائهم وعلى حسابهم ثروات لا تحصيها الأرقام ولا تتسع لها المخيلات ، ويبددها أو يجعلها مادة ملتهبة في الحروب وفي حرائق الشعوب.أما البديل الإسلامي فقد حشر نفسه بين خيارات التاريخ ، وحدّث ، ولا حرج ، عن غوغائه الفكري وعن استبداده الأصولي .

يكتفي اليساري الأميركي بالكتابة اعتراضا على سياسة بلاده ، مع أن الجامعات الأميركية (تشومسكي اليساري أحد أساتذتها) لا تفرض حظرا على الماركسية أوالفلسفات اليسارية الأخرى، بل تجيزها وتشرع تعليمها ؛ بينما يستفيض اليساري غير الأميركي بشتمها، لأنه يحسب حرية الرأي خديعة ، أو جائزة ترضية لمن يرضى على نفسه أن يكون ضحية سهلة أو لقمة سائغة للجشع الرأسمالي أو للاقتصاد المتوحش.

رؤية أميركا بغير العين الخمينية والسوفياتية تظهر لك صورة أميركا الدولة  مغايرة لصورة أميركا الشعب . علمتنا الحركات القومية ، الأوروبية والعربية على السواء ، أن فكرة الشعب هو صناعة يعود الفضل فيها إلى التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات والتقاليد ، ولذلك استيقظنا في مطلع القرن الماضي على صراع بين مؤمن بشعب عربي واحد وقائل بشعوب عربية، مصري وعراقي وسوري ومغربي الخ.

اميركا بلا تاريخ ، ويقال أن شعبها لا أصل له ولا فصل ، بل هو مجموعة من الغزاة ، لم يختاروا أن يكونوا غزاة ، بل رماهم اعتراضهم على عنف الحروب الدينية في أوروبا و بطش الكنيسة على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي ، ونزلوا على شاطئه ومارسوا على سكانه ما يحسبونه من غير الغنف ، مع أنه أشد قسوة وهولا من فظاعات الكنيسة واستبداد الملوك . إنه عنف التحول من قرون وسطى إلى الحضارة الرأسمالية ، عنف دفع ثمنه سكان البلاد الأصليين الذين لم يكونوا مهيئين لمثل هذا التحول ، ولا كانوا قادرين على مجاراتها في سرعة التطور والانتقال المباشر من طقوس السحر إلى مبتكرات العلم ، فطحنتهم عجلة التطور واستسلموا بالقوس والنشاب أمام السلاح الناري ، الأداة الفضلى في يد الرأسمالية للتوسع والسيطرة ، ووسيلة الإقناع الدموي من ذاك التاريخ حتى اليوم.

بلاد لا تاريخ لها ولا جغرافيا . الأرض ليست لهم ، وهم ليسوا شعبا . ما إن وطئوا تلك المساحات الشاسعة ، حتى عملوا على تطويع الطبيعة والبشر فأبادوا من لم يستسلم لمشيئتهم وتوافقوا على إدارة مجتمع جديد شعاره : لا تقل أصلي وفصلي أبدا   إنما أصل الفتى ما قد حصل . ذلك يعني أنهم كانوا يفتقرون إلى عادات وتقاليد مشتركة وإلى لغة ، فاصطلحوا على استخدام الإنكليزية ، لأن الإنكليز كانوا الأكثر عددا من بين الهاربين – الغزاة الأوروبيين ، ومن هنا حملت تلك البلاد تسميتها الأولى : انكلترا الجديدة .

المشترك الوحيد بين أولئك الغزاة هو الدين . كلهم كانوا من البروتستانت الذين ، على اختلاف مدارسهم ، الكالفينية والطهرية والأنكليكانية والإنجيلية ، الخ ، أرسوا  داخل علاقة الدين بالحياة العامة ، تقاليد وأصولا جديدة ، وفصلوا فصلا حازما وجازما بين علاقة البشر بعضهم ببعض وعلاقتهم بالله . حافظوا على إيمان ورأوا فيه أحد تجليات حرية الفرد التي تحولت إلى ما يشبه الوسواس أو الهوس أو المرض، لكنها جعلت كل شيء خيارا وحقا من حقوق الفرد ، بما في ذلك الإيمان الذي لم يعد من عدة الكنيسة ولا من أدوات سيطرتها.

المقارنة بين أصحاب “الأصل والفصل” ممن يدعون التحدر من الفينيقيين أو من السلالات النبوية أو من السامية والحضارات القديمة ، وبين هؤلاء المقطوعين من شجرة صراع ديني دموي خاضته الكنيسة ضد الحضارة الجديدة في أوروبا ، يضعنا أمام حقائق دامغة ، من بينها أن الرأسمالية تعالت على  الصراع التافه على التاريخ ولم تكترث إلى التنازع على الأصل والفصل وتمكنت من صهر شعوب لا روابط عرقية أو دينية أو ثقافية بينها ، ووحدتها ، من غير أن تلغي التنوع . التنوع هو الحرية ، والوحدة هي القانون .

من بين هذه الحقائق المؤلمة أن الحركات القومية التي نشأت مع الرأسمالية، كل الحركات القومية، كانت الأكثر دموية في التاريخ الحديث ، فهي من بين العوامل التي صنعت الحربين العالميتين ، وأنتجت الظاهرة الصهيونية ، وتسببت بالحروب الإتنية والطائفية والمذهبية ، وشكلت غطاء للاستبداد في كل البلدان التي استعصت على ولوج الرأسمالية من بابها السياسي، أي تداول السلطة. الولايات المتحدة أعفت نفسها من العنف القومي ، ويمكن القول إنها قد تكون طمسته ، لكنها استبدلته بعنف آخر ، مظهره ناعم أو غير صريح ، ولا يختلف من حيث الجوهر عن سواه ، إنه عنف الحضارة الرأسمالية التي كانت كلفة ثورتها باهظة جدا ، ومن بين وجوه العنف هذا ، وجه الرغبة بالتوسع والانتشار حتى تعم مظاهرها العالم والأرض والسماء وأعماق المحيطات ، ومنه السيطرة على مقدرات الشعوب والدول .

الحقيقة الأكثر التباسا في هذا الكيان العملاق تتمثل في المفارقة الكبرى بين دور الدولة ودور الحكومة ( الإدارة ) في الولايات المتحدة الأميركية . دوران يبدوان متناقضين : الدولة صنعت وطنا ووحدت مواطنيها وصهرت تنوعهم واختلافاتهم تحت خيمة الحرية و سيادة القانون ، فقدمت في الداخل نموذجا خاصا في طريقة إدارتها لمجتمعها، جاذبا المهارات من كل أصقاع الأرض، بداية ، مع تجارة العبيد ، وصولا إلى تحفيز العقول للعمل في إطار مؤسساتها العلمية والاقتصادية والمالية والسياسية ، الخ ، ثم إلى تحفيز الخائفين من بطش حكوماتهم على نيل الجنسية الأميركية أو الإقامة على أراضيها،  أما الحكومة فلعبت مع دول العالم وشعوب الكرة الأرضية ما بدا في نظر تلك الشعوب أنه دور البلطجي لا دور الراعي من عرشه على سيادة العالم .

الولايات المتحدة الأميركية حددت معايير خصوماتها وصداقاتها مع الآخرين بما يخدم مصالحها الاقتصادية ويوفر لشركاتها الكبرى ومؤسساتها المالية افضل الفرص للاستثمار ، ويوفر ، في الوقت ذاته، أفضل الشروط لإدارة شؤون المجتمع وضمان استقرار اليد العاملة فيه . كل ذلك بمنطق الرأسمالية وآلياتها في الاستثمار وتكديس الأرباح ، ولو على حساب قوة العمل وخيرات الشعوب . فيما اعتمد سواها  معايير سياسية لمناصبتها العداء .هذا ما فعله أهل اليسار والحركات القومية والإسلامية ، استجابة لمصالح سوفياتية وإيرانية بالدرجة الأولى ، وكردة فعل طبيعية على عار الرأسمالية الأكبر المتمثل بالمشروع الصهيوني العدواني العنصري ، الذي تأسس بدعم مباشر من جانب الدول الرأسمالية الكبرى ، ثم تولت الولايات المتحدة رعايته وحمايته وشجعته ونسقت معه الحروب على بلدان العالم العربي وشعوبه .

بعد انهيار التجربة الاشتراكية وأمام عبثية المشاريع الاسلامية المعاكسة لسير حركة التاريخ ، ربما آن الأوان لإعادة صياغة علاقة الصداقة والخصومة مع الولايات المتحدة الأميركية  ، على أسس صحيحة ، لا على الأسس القديمة التي لم تكن من أولوياتها مصالح شعوبنا وأوطاننا ، بل المصالح السوفياتية والإيرانية و معايير الصراع الدولي بين المعسكرين. فإن كان العداء لأميركا مبنيا على أساس طبقي ، فهي ليست القوة الرأسمالية الوحيدة في العالم ، حتى لو كانت هي الأقوى . ولماذا لا يكون عداء مواز للدول السبع ومعها روسيا ؟ وإذا كان مبنيا على أساس ديني فمن الأولى بحركات الاسلام السياسي أن تتبع نهجا سياسيا واضحا حيال كل الديانات الأخرى ، وإذا كان مبنيا على أساس الموقف من الكيان الصهيوني ، فمن الأولى أن تستقيل قوى المواجهة من دورها بعد أن شبعت من ركوب موجة العداء للصهيونية لتأبيد سيطرتها الأصولية الاستبدادية.

الشرط الضروري لقيام صداقة أو عداوة مع الولايات المتحدة هو اعتبار التعاون معها تعاونا على مصالح ، والصراع معها صراعا على مصالح ، وأن الصراع والتعاون لا يقومان إلا بين الند والند بالرغم من فوارق الأحجام ، دولة مقابل دولة . غير أن مشكلة الذين يحبون ويكرهون في بلادنا مازالوا يمارسون السياسة من خارج قيم العصر ، فهل هي صدفة أن يكون المعادون للولايات المتحدة ، كلهم ،  لا يعترفون بقيام الأوطان الحديثة : شعب وأرض وسيادة ، هي سيادة الدولة ؟ القاسم المشترك بينهم ليس فقط العداء لها ، بل هم كلهم لا يعترفون بالدولة الحديثة والدساتير والمساواة أمام القانون ، ويصرون على قهرشعوبهم بكل صنوف التجهيل وعلى قمعها بكل صنوف الاستبداد ، ويستخدمون العداء للامبريالية والشيطان الأكبر ذريعة لمحاربة الديمقراطية ، و للحؤول دون قيام الدولة الحديثة القادرة وحدها على إدارة الصراعات بطريقة سليمة .

ليست دعوة للاستسلام ، بل للنقد الذاتي . فبغير نقد الماضي لن يكون مستقبل. وبغيره لن نقوى على مواجهة التحديات والأعداء.