22 نوفمبر، 2024

النقابيون المساكين

22-5-2014

  يتعرض النقابيون، قيادة وقاعدة، لظلم كثير في الصحافة ووسائل التواصل وفي الأوساط السياسية والاقتصادية ، وحتى من الوسط النقابي ذاته ، ويتعرضون لهجوم حاد تستخدم فيه  ضدهم الأرقام المالية وتقام المقارنات بين الأجور في الإدارات الرسمية أو في قطاع التعليم ، ويشار إلى فائض من العاملين في المدارس وفائض من المتعاقدين سنويا من غير لزوم ، وإلى تدهور قطاع التعليم الرسمي ، وتثار المخاوف على الاقتصاد الوطني إذا ما أقرت السلسلة ، الخ .

غير أن النقابيين “مساكين” لثلاثة أسباب لم ترد في أية لائحة اتهامية موجهة ضدهم . هم مساكين لأن مطالبهم محقة بضرورة إقرار سلسلة بعد أن أكل الدهر على السلسلة القديمة وشرب ، طيلة عقدين من الزمن تضاعفت فيه الأسعار وبقيت أجورهم فيه على حالها .

لكنهم مساكين لأنهم لم يكتشفوا أن الأجور ليست وحدها التي تآكلت مع الوقت ، بل العمل النقابي كله ، وصارت قيادة الاتحاد العمالي العام والنقابات والاتحادات المنتسبة إليه، ورابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية ورابطات الأساتذة في التعليم الرسمي ، نسخة طبق الأصل عن تركيبة السلطة الحاكمة ، وفقدت بذلك هويتها كمنظمات ” غير حكومية” ، وتحولت إلى هيئات مجندة في خدمة السلطة وبعيدة عن هموم ” الطبقة العاملة” … ويتضاعف هول “المسكنة” حين يشخصون الأزمة المستجدة بفعل انهيار المنظومة الاشتراكية ويقترحون لها حلا ” بسيطا ” جدا جدا، لأنه حل لغوي يقضي بتبديل اسم  “الرابطات” وتحويله إلى “نقابات”.

وهم مساكين ، وهذا هو المأسوي ، لأنهم يجهلون أهم ما في تاريخ النقابات وفي دورها . نشأت بقرار من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية ، لتكون ذراعها النضالي في المجال الاقتصادي الاجتماعي على أن يشكل الحزب ضمانتها السياسية وبوصلتها التي لا تخطئ عدوها الطبقي . هي تواجه أرباب العمل من أصحاب المصانع والمعامل والمتاجر والمصارف والشركات ، الخ ، بغية أن تكون المواجهة أحد الروافد النضالية التي  تصب في النهر السياسي للحزب .

كأن النقابات اختصت بالقضية الاجتماعية وحدها وتركت لبوصلة الحزب تحديد البعد السياسي. الطامة الكبرى هي أن الحزب شطح ، في أيام ذروته ، نحو تحليل اقتصادوي ، وغرق في تفسير ميكانيكي لمصطلحات ومبادئ النظرية الماركسية ، فانحصر الصراع الطبقي ، من وجهة  نظره ، بمواجهة مع مالكي الثروة المالية ، أي ” حيتان المال” ، أو الطغمة المالية ، مواجهة مآلها النظري تغيير جذري في النظام الاقتصادي من عناوينه التأميم واستبدال الاقتصاد الحر بالموجه والراسمالية بالاشتراكية . الطامة الكبرى هي أن الاشتراكية انهارت وما زالت النقابات تحمل برنامج التغيير الاشتراكي بحرفيته النظرية ، وإن كانت قد قدمت تنازلا على الصعيد العملي ، فلم تعد تطالب بالتأميم مثلا .

أول ما ترتب على هذا التفسير المغلوط والمشوه ، في ظل غياب الحزب والبوصلة السياسية ، هو تحييد السلطة وإعفاؤها من أية مسؤولية على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، ووضعها في منأى عن الصراع “الاقتصادي” وجعلها حكما بين طرفي الانتاج في العمل المأجور ، وقد ترجمت هيئة التنسيق النقابية ذلك ، كما الاتحاد العمالي العام، في مواقفها وخطب قادتها تملقا للقيادة السياسية وتحالفا مع الأحزاب التي ساهمت في تدمير النقابات ، ومضت إلى نهايات التحليل المغلوط بحثا عن صيغة للانقاذ الوطني تحت نهج قوى ” الممانعة ” بالذات ، التي تولت عملية التدمير تلك .

خطأ هيئة التنسيق النقابية في تحركها ناجم عن تفسير مشوه للماركسية وعن ممارسة مشوهة للعمل النقابي. فلا يجوز وضع السرقات على السوية ذاتها . فالنهب الرأسمالي الذي تحدث عنه ماركس شيء ( نهب القيمة الزائدة ) ونهب المال العام شيئ آخر .النهب الأول لا يمكن أن يتم إلا بتشريع من السياسيين ، وبالتحديد من المجلس النيابي . أما الثاني فهو السرقة الموصوفة ومرتكبه هو اللص الحقيقي . والفارق الثاني بين نوعي النهب ، هو أن من تسميهم هيئة التنسيق ” حيتان المال ” هم الذين ينقذون الاقتصاد الوطني عند تعثره وبالتالي ينقذون الوطن والدولة ، وهم بالطبع لا يفعلون ذلك من دون مقابل ، لأن ذلك من قوانين الرأسمالية التي تحدث عنها ماركس . أما اللصوص الحقيقيون فهم الذين لا تتوقف جريمتهم عند حدود السرقة بل يتسببون بفعل ذلك بانهيار مالية الدولة والاقتصاد الوطني والدولة . مع ذلك ، تجد هيئة التنسيق النقابية نفسها ، بسبب هذا التفسير المغلوط بالذات ، متحالفة مع اللصوص ضد حيتان المال .

من ناحية أخرى ، يعرف العريقون في العمل النقابي ، أن ” الحيتان”  أكثر مهارة من الأسماك النقابية الصغيرة ، لأنها تعرف كيف تعطي باليمين لتستعيد باليسار، وأن حركة مطلبية من غير أفق سياسي تتحول إلى ألعوبة في يد السياسيين ، وأن على النقابيين واليساريين والعلمانيين أن يواجهوا الأكثر خطرا ، لا على لقمة عيشهم فحسب ، بل على مصير الوطن والدولة . ربما كان النضال ضد الفساد ومن أجل سيادة القانون هو الذي يحمي الوطن من كل أنواع اللصوص.