12 أكتوبر، 2024

مشايخ للإثارة

 25-2-2013

مقتل شيخين في عكار ، كما الاعتداء على شيخين في الخندق الغميق ، أو على أي رجل دين،  مسيحيا كان أو مسلما ، هو أكثر إثارة للمشاعر الطائفية والمذهبية من مقتل مواطنين أو الاعتداء عليهما. وذلك بسبب التباس يحيط بموقع رجل الدين ودوره خارج المسجد أو الكنيسة  أو خارج نطاق الفقه واللاهوت والطقوس الدينية . نقول ذلك لا لنحمل المشايخ مسؤولية الاعتداء عليهم ، بل لنضع على عاتقهم مسؤولية إيجابية في إعادة بناء الثقة بين المؤسسة الدينية والدولة.

نشأ ذاك الالتباس مع بروز ظاهرة  لم تكن معروفة في الإسلام ولا في العالم الاسلامي، وهي ظاهرة رجل الدين، ثم تفاقمت مفاعيله بفعل الصراع العنيف المتعلق بالعلمنة وبناء الدولة الحديثة التي لا تقوم سيادة لها إلا بفصل سلطتها عن سلطة الكنيسة . بعد انتقال مسألة العلمنة إلى العالم العربي ، عد رجال الدين أنفسهم غير معنيين بها ،وكانت حجتهم في ذلك عدم وجود مؤسسة دينية (كنيسة ) في الإسلام .

تجاهلوا واستجهلوا أيضا ، فلم يقرأوا أي كتاب عن العلمنة أو عن تجربة انتقال الغرب من دولة الوراثة التي كان للمؤسسة الدينية حصة فيها ، إلى الدولة الحديثة القائمة على سيادة القانون ، وحسبوا العلمنة بمثابة الالحاد ، ساعدهم على هذا الفهم المغلوط علمانيون جعلوا التنافس يقوم بين الدين والدولة لا بين سلطتين إحداهما سلطة المؤسسة الدينية ( فقالوا بفصل الدين عن الدولة  لا بالفصل بين السلطتين)، وكرسوا بسلوكهم موقفا لا يعترض على سلطة المؤسسة بل يعادي الدين.

ما لا يريد رجل الدين أن يفهمه أو أن يقتنع به هو أن الكلام خارج الحقل الديني ( شريعة ، إيمان ، طقوس ، لاهوت ، فقه …) إن صدر عنه ، خصوصا في المجال السياسي ، يحمل جانبا من الخطورة أكبر مما لو صدر ، هو ذاته ، عن سواه .جانب الخطورة هذا محمول من مدلول يضاف على معنى الكلام حين ينطق به رجل الدين . ذلك أن الدراسات اللغوية ، التي يتفاداها خريجو الحوزات ويأنفون منها ، أكدت أن الكلام لا يفهم إلا في سياقه ، وأن المعنى القاموسي للمفردات شيء مختلف عن معناها في الكلام ، حتى قال أحدهم ، إن معنى الكلمة الثانية المكررة في عبارة : النار النار(وهي للتنبيه) ، تحمل مدلولا إضافيا ليس موجودا في “النار” الأولى .

جانب الخطورة في سلوك المعممين وفي تصريحاتهم هو نتيجة منطقية لأقتطاعهم مسحة  من القداسة هي ليست من حقهم ، إذ إن القداسة هي لله وحده وللكتب المقدسة . حتى الأنبياء لم يجيزوا لأنفسهم ما أجازه رجال الدين . ففي القرآن آيات عديدة تؤكد على أن النبي يتساوى مع سائر المؤمنين في كونه بشرا ولا يمتاز عنهم إلا في الشأن المتعلق بالوحي .

من بين التباسات علاقتهم بالدولة الحديثة إصرارهم على أن الحاكمية هي لله  لا للبشر ، وهي ، بالتالي لمن يمثل الله على الأرض ، في سلم متدرج من النبي إلى العلماء( ورثة الأنبياء بحسب حديث مزعوم)، ومنه اشتقت فرضية ولاية الفقيه الشيعية ، أو الحاكمية السنية .

إذا كانت هذه الفرضية موضع نقاش ( ليس الآن أوانه) فإن خطأ فادحا  يرتكبه المعممون ويحملون وزره للدين، نصا وشريعة وإيمانا ، وهو يكمن في كونهم يضفون على السياسة جانبا من القداسة ، في حين أن السياسة ،  بالتعريف ، شأن مدنس ( دنيوي)  ، لأنه نزاع على المصالح المادية والمعنوية في هذا العالم الأرضي .

خطأهم الثاني هو في كونهم يستخفون بالقيمة الرمزية التي تنطوي عليها الجبة والعمامة ، وهي قيمة تحيل إلى شيء من القداسة لا يتمتع به أي فرد من أفراد المجتمع ، فلا ينتبهون إلى أن وقع كلامهم وسلوكهم على العامة من الدهماء هو محل إثارة لا يعرف مداها .

لا نعني بذلك حظر العمل السياسي على رجال الدين ، كما يحلو لهم أن يتصوروا ، لأن هذا حق من حقوقهم كبشر ، لكننا نطالبهم باحترام حق الدين عليهم، فهو يستوجب منهم ألا يدنسوا المقدس ، يعني ألا يزجوا أنفسهم في شؤون السياسة وهم مدججون بالقداسة ، لأن في ذلك من الإثارة ما ليس بمقدور العقلاء لجمه .

إن عليهم أن يكونوا مشايخ للهداية لا للإثارة.